استشهاد أنس الشريف- اغتيال الحقيقة في غزة

بجوار أسوار المستشفى، وفي خيمة متواضعة أُعدت للصحفيين، ارتكبت القوات الإسرائيلية جريمة شنعاء، حيث أقدمت بدم بارد وعلى نحو متعمد ومسبق، على قتل طاقم صحفي بأكمله. لقد غرقت السترات التي تحمل كلمة "صحافة" بخط واضح، بدم هؤلاء الفرسان الذين نذروا أنفسهم لنقل الحقيقة. وفي هذا الهجوم الآثم، استشهد الصحفي الفلسطيني المرموق أنس الشريف، وزميله محمد قريقع، اللذان كانا من بين أبرز الأصوات الإعلامية في قطاع غزة.
إن هذا العمل الشنيع يمثل انحداراً غير مسبوق في سجل الانتهاكات الإسرائيلية للقانون الدولي الإنساني وحقوق الصحافة. لقد استهتر الاحتلال الإسرائيلي مجدداً بجميع المواثيق والأعراف التي تهدف إلى حماية العاملين في مجال الإعلام، في تعدٍ سافر على حرية الصحافة وحق الجمهور في المعرفة.
اغتالت قوات الاحتلال صحفياً شاباً تميز بتجاوزه الأساليب التقليدية في نقل الأخبار، وانغماسه العميق في قضايا شعبه وأهله. لقد كان أنس مثالاً للالتزام المهني الاستثنائي، رغم الظروف القاسية التي واجهها. قُصف منزله واستُشهد والده، وتعرض للتهديد والترويع والجوع والنزوح، إلا أنه ظل صامداً، محافظاً على مصداقيته وشجاعته ونشاطه الدؤوب. لم يرهبه الموت أو الضغوط، بل كان أنس جزءاً لا يتجزأ من واقع غزة، ورمزاً من رموزها، وليس مجرد ناقل للأحداث.
لقد كان أنس من أولئك المراسلين الذين يعيشون الحدث بكل تفاصيله، ويصبحون جزءاً من المشهد، يتألمون لما يتألم له الناس، ويتحملون المسؤولية كاملة، ويخوضون المخاطر بكل جرأة وإقدام.
لهذا السبب، تحول أنس إلى صوت أولئك الذين يتعرضون للإبادة الجماعية، وكان له تأثير بالغ الأهمية أدركته دولة الاحتلال الإسرائيلي جيداً، وسعت بكل ما أوتيت من قوة لإسكاته بشتى الطرق، وكان آخرها الاغتيال الغادر.
لكن الاحتلال الإسرائيلي لم يدرك أن مثل هؤلاء المراسلين تبدأ لهم حياة جديدة بهذه الطريقة الوحشية من الإسكات؛ حياة ملهمة لأجيال جديدة من الصحفيين الشباب في كل مكان. وفي السياق الفلسطيني، فإن اغتيال أنس سيؤدي إلى زيادة الغضب على دولة الاحتلال وملاحقتها، والحث على تنظيم فعاليات مختلفة تسعى لمحاسبتها على جرائمها.
سياسة ممنهجة لتغييب الحقائق
إن جريمة اغتيال طاقم قناة الجزيرة في غزة، وعلى رأسهم المراسلان أنس الشريف ومحمد قريقع، تندرج ضمن استراتيجية إسرائيلية ممنهجة تهدف إلى حجب الحقيقة ومنع أصوات المظلومين من الوصول إلى العالم، وجعل الفضاء الإعلامي حكراً على الرواية المضللة التي يروج لها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وحكومته اليمينية المتطرفة، الذين يسعون لتبرير جرائمهم وإخماد أي صوت يعارض روايتهم الكاذبة.
لقد قتلت قوات الاحتلال الإسرائيلي في غزة وحدها أكثر من 237 صحفياً منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، واستهدفت بشكل مباشر جميع رموز المجال الإعلامي وأيقوناته ومقراته، في محاولة يائسة لمنع وصول تأثيرهم إلى الوعي العالمي والإقليمي.
وقد تعامل الاحتلال الإسرائيلي مع أنس الشريف، ومن قبله إسماعيل الغول ووائل الدحدوح وشيرين أبو عاقلة، كأيقونات للإعلام في غزة والضفة الغربية، يجب إعاقتهم بأي ثمن، سواء من خلال التهديد أو الاستهداف المباشر.
تهديد متواصل وقمع للحقيقة
بدأت التهديدات لأنس مبكراً، ففي ديسمبر/كانون الأول 2023، عندما كان الصحفي أنس الشريف يوثق استهداف الاحتلال الإسرائيلي لمراكز النازحين ومدارس الأونروا والمستشفيات في غزة وشمال غزة، وينقل صور القصف المتعمد للمناطق المكتظة بالمدنيين، قامت قوات الاحتلال بقصف منزل عائلة أنس، ما أدى إلى استشهاد والده.
وفي يوليو/تموز 2024، اغتال الاحتلال الإسرائيلي رفيق أنس، مراسل الجزيرة إسماعيل الغول، والمصور رامي الريفي، ولكن أنس واصل عمله بكل شجاعة ومهنية، وظل صوتاً صادحاً بالحق وناقلاً له كما هو دون تزييف أو تحريف.
بعد ذلك لجأ الاحتلال إلى حملة تحريض واسعة على أنس أشرفت عليها لجان استخباراتية وإعلامية، وهو ما أطلق عليه أنس نفسه "محاولات إسكاته"، حيث وصف أنس الشريف اتهامات إسرائيل له بـ"الإرهاب"، بـ"التحريضية" و"محاولة إسكاتي، في مسعى لوقف تغطيتي عبر شاشة الجزيرة ومواقع التواصل الاجتماعي".
وفي تحدٍ واضح لسياسة الاحتلال وشجاعة مشهودة، كتب أنس حينها "رسالتي واضحة لن أصمت. لن أتوقف. صوتي سيبقى شاهداً على كل جريمة، حتى تتوقف هذه الحرب في أقرب وقت".
ولم يكن الأمر خافياً على الجهات المعنية أيضاً، فقد أصدرت لجنة حماية الصحفيين – وهي منظمة دولية غير حكومية وغير ربحية، مقرها مدينة نيويورك، في أواخر يوليو/تموز 2025- بياناً أعربت فيه عن قلقها إزاء ما وصفته بـ"تهديدات مباشرة وتحريض علني" ضد أنس الشريف، عقب تداول مقاطع وتصريحات على منصات تواصل اجتماعي "تشير إليه بالاسم، وتشكك في عمله الصحفي".
وحتى اللحظات الأخيرة من استشهاده، ذكر أكثر من صديق له أن أنس كان على علم بجدية التهديدات الإسرائيلية، لكنه بقي محافظاً على واجبه تجاه قضيته وشعبه، ودوره في نقل الحقيقة بكل أمانة وموضوعية.
الاستهداف وارتباطه بعمليات كبرى
حاول الاحتلال طمس الحقيقة من خلال استخدام التهديد ضد أنس الشريف ورفاقه، واستخدام التحريض ونشر الاتهامات الزائفة ضدهم. وقد نشر الناطق باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي تحريضاً مباشراً على أنس في أغسطس/آب 2024، مدعياً علاقة أنس بحركتي حماس والجهاد الإسلامي، وأن أنس يمثل مسرحية إعلامية كاذبة لا تمت لسكان غزة بصلة.
وقد كان واضحاً أن دور أنس الصحفي المهني يشكل مصدر إزعاج حقيقي وكبير لدولة الاحتلال الإسرائيلي التي لا تريد أن تخرج الحقيقة إلى الفضاء العام.
إذا ما توقفنا عند توقيت التهديدات الأولى لأنس الشريف في أغسطس/آب 2024، فإننا نجد أنها سبقت عملية "خطة الجنرالات" التي كانت تهدف لإخلاء سكان شمال قطاع غزة، وفرض حصار كامل يمنع مرور الغذاء والمياه والدواء؛ لجعل المقاومة المتبقية في شمال قطاع غزة تستسلم أو تموت جوعاً، وذلك وفق مهندس هذه الخطة الجنرال الإسرائيلي غيورا آيلاند.
وقد بقي أنس الشريف في شمال قطاع غزة وغطى عملية إجبار آلاف النساء والأطفال على النزوح من شمال قطاع غزة وسط طرق محفوفة بالموت تنفيذاً لخطة الجنرالات.
وفي هذا السياق، كان واضحاً أن الاحتلال الإسرائيلي حاول إخفاء الأهداف الحقيقية لخطة الجنرالات، وقد كشف الأكاديمي الإسرائيلي في جامعة تل أبيب عيدان لاندو، أن خطة الجنرالات كانت خطة مروعة، وأن جيش الاحتلال كان يتعمد إخفاءها عن المجتمع الدولي، ولذلك قام باستهداف الصحفيين الذين حاولوا توثيق الأحداث.
وحالياً، بعد أن أقر المجلس الأمني المصغر لحكومة الاحتلال الإسرائيلي خطة لاحتلال مدينة غزة، فإن دور أنس ورفاقه في تغطية الحقيقة ونقلها للعالم عبر قناة الجزيرة أُريد له أن يغيب ويطمس، خاصة مع الدور الكبير الذي قام به أنس الشريف ومحمد قريقع خلال الأشهر الماضية التي ترافقت فيها حرب التجويع على قطاع غزة مع الضغط العسكري في عمليات "عربات جدعون" التي فشلت في تحقيق أهدافها.
وقد كان للإعلام دور كبير في فضح الرواية الإسرائيلية ومبرراتها، وكانت الصور والتقارير والمشاهد التي ينقلها هؤلاء المراسلون أقوى بكثير من أن تغطي عليها رواية الاحتلال الإسرائيلي المجرم.
وفي هذا السياق، تساءل الصحفي الاستقصائي الإسرائيلي يوفال أفراهام حول توقيت اغتيال أنس الشريف عشية خطط احتلال مدينة غزة، مشيراً إلى أن الجواب واضح. وهو يعني أن الجيش الإسرائيلي يخطط لمشاهد في غزة لا يريد أن تنقل للعالم.
نموذج أنس
لقد اشتهر صحفيون عبر العالم غطوا حروباً وكوارث إنسانية لم يصلوا إلى معشار شجاعة أنس. لقد تمسك برسالة الصحافة المهنية رغم الخطر المحدق وبث التقارير المباشرة من وسط النار، ومن بين شظايا صواريخ طائرات "إف-16".
وقد عاش لحظات فقدان رفاقه، وكان يغطي الأحداث بمهنية عالية والتحام كامل مع البيئة التي كان يمثلها بشكل حقيقي، وليس مجرد ناقل لها. لقد كان ينقل أحداث المجاعة وهو جائع، وأحداث النزوح وهو مقيم في خيمة نزوح، وينقل أخبار الشهداء، وهو ابن الشهيد وصديق الشهداء.
ختاماً؛ لقد أوصل أنس رسالته وكتب وصيته بفعله قبل قلمه، ولهذا فإن تضحية أنس هي نموذج لكل الصحفيين الشباب في غزة وفلسطين وخارجها، وهذه البطولة غير المسبوقة في فترة قصيرة من سيرة حياة صحفي تشكل مصدر إلهام لا يمكن إطفاؤه، ولن يزيد اغتيال أنس في الإيمان بهذا النموذج إلا اتساعاً وانتشاراً.